لفت انتباهي وأنا أقرأ آيات النجوى في سورة المجادلة ذلك التفصيل الدقيق في أقسام النجوى وأنواعها وبيان خطر النجوى المحرمة وخطلها وأثرها في شق وحدة الجماعة المسلمة فقلت في نفسي لو أني جمعت بقية الآيات في النجوى ونظرت فيها نظرة تأمل وتحليل لاكتشفت كنوزا مذخورة في هذه الآيات تزداد بالتدبر ولا ينقضي منها العجب.
فوجدت دون كبير عناء أن الله سبحانه وتعالى يؤدب عباده المؤمنين-في الآية السابعة من سورة المجادلة-فيلفت أنظارهم قبل النجوى إلى استحضار معية الله بعلمه وقدرته لكل بر وفاجر وهي معية تخترق حجب الشهادة إلى علم الغيب
وتختم الآية بذلك الوعيد الشديد والتحذير الأكيد بأن ما يخفى ويدق من سرائر الناس في نجواهم ينكشف ويشف أمام علم الله المحيط.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(7)
ثم نقرأ في الآية الثامنة ذلك التأنيب اللاذع لمن يرتكب ذنب التناجي بالإثم والعدوان بعد أن بلغه عن الله أنه حذر منه،وذلك الوعيد المجلجل بإصلائه النار وبئس المصير.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8).
ثم تأتي الآية التاسعة واضعة ضوابط النجوى ومحدداتها لا فتة بأسلوب التلميح أن النجوى ليست هي الأصل وإن كانت قد ترتكب لتحقيق مقاصد شرعية مذكرة من يرتكب المحرم منها بالحشر إلى الله الجبار القادر
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
ثم تأتي الآية العاشرة لطمأنة المؤمنين أن نجوى المتناجين بالإثم والعدوان وإن أحكموا فيها خطط الكيد وأستفرغوا فيها أساليب المكر فإنها لن تؤثر في المؤمنين إلا حزنا عارضا تعقبه عقبى حميدة شريطة أن يعتصم المؤمنون بالله ويجعلوه وكيلهم في كل همٍّ
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
وقبل أن أغادر هذه الآية لا يفوتني أن ألفت انتباهك -أخي القارئ -إلى ذلك التشابه بين هذه الآية وأية البقرة في شأن هاروت وماروت وكأن الآية توحي من طرف خفي إلى أن النجوى تحدث في النفوس أثرا يشبه أثر السحر إلا أنه لا يضر أحدا إلا بإذن الله
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وإذا انتقلنا إلى آيات النجوى في سورة النساء نجدها تبطل كل نجوى لا يكون المقصد من ورائها مقصد شرعي محمود من صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس وفي الحالات الاستثنائية التي تتطلب فيها هذه المقاصد استخدام أسلوب النجوى ترتفع النجوى عن ذلك الدرك السحيق إلى تلك القمة السامقة التي يستحق صاحبها الأجر العظيم وفي ذلك ما فيه من ترغيب وفيه ايضا ترغيم لمن يستهجن النجوى على الكبار ويظنها حطيطة من شأنهم
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
ثم يلمح السياق إلى أثر النجوى المحرمة في تمزيق وحدة الجماعة المسلمة واتباع منتهجها غير سبيل المؤمنين وتهديهده بعذاب الله الدائم في الآخرة
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.